بعد خمسةٍ أيام من كل أسبوع، أقضيها مضطراً خارج المنزل، يتفاقم فيها خوف من قتل على الهويّة، أو موت بسيارة مفخخة، أو حفلة اطلاقات نارية هوجاء، أرجع إلى أُمي التي تستقبلني وكأني عائد للتو من جبهات القتال. تشم ملابسي بحثاً عن رائحة البارود، وتتفقد ملامحي لتطمأن على أن سحنتي لم يطلها جنون العاصمة الذي ينشر الرعب في الشوارع.
منذ أشهر، بلغتُ 26 عاماً من عمري الموزع بين بغداد ودمشق. العاصمتان الموزع دمهما بين قبائل الفضائيات والصحف ومراكز الدراسات. ومنذ عامين وأنا في بغداد. هنا، أدفن وجهي في صدر أمي وأنام، علَّ رائحتها تطرد الكوابيس التي تلاحقني كلّ يوم. وحين تشعر بضيق من التصاقي بها أمسك يدها فقط، وأغفو. أحياناً أُيقظها لأطلب منها أن تحضر لي كوب ماء، ولست بعطِش، فقط لأعرف إننا ما زلنا هنا، نحن الاثنين، في هذا المدينة التي لا نعرف أين ستمضي بنا.
***
أسمع صراخها ليلاً إثر الكوابيس المتلاحقة، وتسمع هي صراخي بمعدل يومين في الأسبوع، دون أن نسأل بعضنا، مطلقاً، عن سيناريوهات الخراب التي نراها في نومنا. تشرب شايها بالقليل من السكر، وأشرب قهوتي مرّة في الصباح، أضع قبلة على جبينها، وتبدأ بالقلق عليَّ حين أخرج.
كلّ منا يتخيل سيناريو حتفه. كل منا يضع سيناريوهات عديدة لموته.
كل صباح ألمس أيَّ شيء بجانبي لأعرف أني حيّ. مرّة أمسكتُ بحذاء بجانب رأسي. كانت رائحته عفنة لأني سرت به يوماً كاملاً في أحياء بغداد رفقة صديق ونحن نكرر: بغداد "شماعيّة" (اسم مستشفى المجانين هناك) كبيرة. عرفت أني حيّ، وعرفتُ أن الحياة لا تقلُّ عفونة عن هذه الرائحة.
لكن لِما كل هذا الخوف؟
بين 20 آذار/مارس 2003 و14 آذار/مارس 2013، بلغت الحوادث "المميتة" في العراق حوالي 31.500 حادث، قتل جراؤها من 112.017 إلى 122.438 بسبب العنف الحاصل، وبلغ عدد الجرحى نحو 250.000 جريحاً. وحصدت بغداد الحصة الأكبر من عدد الأموات، حيث شهدت العاصمة مقتل نحو 58.252 مدنياً، (ما يعادل 48 في المئة من عدد القتلى)، وفق منظمة "ضحايا الحرب في العراق" البريطانية. وما يزال ضجيج ماكينة الموت في بغداد عالياً.
***
يحدّث سائق الباص نفسه. يبدو كلامه واضحاً تماماً. يلعن الشرطي وكل السياسيين. وتجيبه عجوز بعباءة ووشم على حنكها بأن يهدأ، إلا أنه يستغل الفرصة للشكوى أكثر. اتضح أنه حصل على مخالفة نتيجة عدم وضعه حزام الأمان، سرعان ما تنفجر العجوز بالبكاء، لأن موظف الجنسية لم يمنحها البطاقة الوحيدة التي تثبت عراقيتها بسبب نسيانها أحد "المستمسكات" (وهناك أربع وثائق تسمّى "صدّامية" يجب أن تكون حاضرة كلها في أي معاملة). ثمّة شخص سكران، يبدو أنه لم يتوقّف عن الشرب منذ أيام، ولا يهتمّ لكل ما يحدث، يستغرق في النظر من النافذة إلى الشوارع، ولا يبدو أنه فعلاً ينظر إليها. يبدو أنه انطوى على ذاته. ينشغل فتى جامعي بعدِّ نقوده التي تكفي لأُجرة الطريق، وسندويش فلافل، فيما يضع طفل ناحل رأسه تحت إبط والدته التي تُسبِّح بأصابعها.
***
العراق "شماعية" كبيرة. مستشفى أمراض نفسية بلا أطباء. كلنا معتلّون في هذا البلد بأمراض متفاوتة. فُصام وقلق وارتياب، ووساوس... بعضنا يسيطر على نوبات جنونه، لكنه ينفجر يوماً، ويعيش وحدة لا أحد يهتم لها. لا أحد يفتقد أحداً، كلنا يائسون. كلنا ينظر إلى حاله التي تبدو أنها لا تتحسّن، إذا أمّنت نقوداً فلن تؤمّن حياة خالية من الرعب.
أنا مريض، وكذلك أصدقائي بسبب الموت العبثي المتربص بنا في كل زاوية من زوايا المدينة. لم أقص شعري منذ عام أو أكثر. أشعر أن الحلاق سيحزّ عنقي بموسى معقّمة، والدم ينطّ حاراً بينما يضحك زبائن المحل بهستيريا مجلجلة. الدم حار وعيوني باردة، والموسى نظيفة تماماً. لست ملاكا ولا رامبو كذلك لـ"أقضي حياتي جالساً مثل ملاك في كرسي حلاق". لقدّ حوّلَنا قادة البلاد السابقين والحاليين إلى كائنات تشككّ بكلِّ شيء.
لما حالي هكذا؟
***
مع كلّ إحصائية اقرأها ألمس سبباً آخر لليأس، واقترب من العدم أكثر. وأترك التفاؤل في براد الموتى. الأموال تُصرف دون طائل، فيما الشوارع تغص بالفقراء، والمدينة تفقد وجهها يوماً بعد آخر. لا شيء يجعل أولئك الذين ولدوا قبل عشرة أعوام يحنّون إلى مدينتهم. فهم لا يعرفون عنها شيئاً سوى الخراب المستمر والفشل، والتراجع الى الوراء.
هل تحوّلت بغداد إلى مسخ؟ أم سكانها؟ أم من يقودونها؟
[ينشر ضمن اتفاقية شراكة وتعاون بين "جدلية" و"السفير العربي"]